صوت ثورة عرابي ومحارب الإنجليز… “الشيخ عليش” الصوفي الثائر الذي مات مسمومًا
على حسب الشاهد التذكاري لمقام قبره، فإن الشيخ محمد عليش شيخ مشايخ المالكية في مصر المحروسة نهايات القرن التاسع عشر، مات فى عام 1882م فى سجنه، بعد انكسار ثورة أحمد عرابي، حيث كان عليش صوتها الصارخ في شوارع المحروسة، مناديًا بالوقوف أمام الاحتلال البريطاني، وعزل الخديو توفيق من حكم مصر.
تم التنكيل بالشيخ عليش من قبل السلطة، خاصة حين احتج على ضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية، حيث حُمل من منزله ولا حراك به، وأودع في سجن المستشفى، حيث وافته المنية هناك في ظروف غامضة، فسرها بعض معاصريه بأن السم قد دُس له عقاباً على مواقفه، ليبقى مدفنه في القاهرة شاهدًا على نضاله، أما نجله عبدالرحمن الذي كان رفيقًا له في النضال والتصوف، فقد تم نفيه مع الثوار العرابيين.
بدوره يقول الباحث محمد عمر عبدالعزيز الشريف ، إن قرافة المجاورين بطريق صلاح سالم بالقاهرة، وإلى جوار مقام القطب الكبير سيدي عبدالله المنوفى، يتواجد مقام إمام المالكية ومفتي الديار المصرية سيدي الشيخ محمد عليش، مؤكدا أن عليش الكبير وابنه كانا من أصحاب الطريقة الشاذلية، وهى إحدى أكبر وأشهر مدارس التصوف في مصر والعالم، وتُنسب للشيخ أبي الحسن الشاذلي، وتنبثق منها طرق فرعية، منها الطريقة الدرقاوية، والتي تعتبر طريقة مجددة للشاذلية.
وقد تأسست الطريقة الدرقاوية في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي على يد مؤسسها الشيخ العربي أحمد الدرقاوي المتوفى سنة 1823م، وقد امتد تأثيرها من مراكش وفاس لتنتشر في باقي البلدان العربية وغيرها من البلدان الإفريقية والآسيوية.
ويضيف عمر الشريف أنه تفرعت عن تلك الطريقة الصوفية طريقة أخرى هى الطريقة المدنية، وقد تفرعت عن الدرقاوية الشاذلية وتأثرت بها، وقد ظهرت هذه الطريقة على يد مؤسسها محمد حسن بن حمزة ظافر المدني المولود بالمدينة المنورة سنة ١٧٨٠هـ؛ لذا عُرف بالمدني، وقد اتصل المدني الكبير بالشيخ العربي الدرقاوي وصار من تلامذته حتى وفاته سنة ١٨٢٣م، حيث قام الشيخ محمد المدني بقيادة الطريقة ومشیختها، ثم أسس طريقته والتي عُرفت بالمدنية وأرسى دعائمها، وكانت زاويتها الرئيسية في مصراتة بليبيا، وأصبحت طريقته ذات شهرة كبيرة في ليبيا وخارجها، وزاد نشاطها وانتشرت في بعض مناطق المغرب العربي والمشرق الإسلامي.
وبعد وفاته تولى أمور الطريقة ابنه الشيخ محمد ظافر بن محمد حسن المدني، والذي وصلت الطريقة المدنية في عهده أوج سمعتها، ارتحل من مصراتة إلى القاهرة ثم الحجاز، وأخذ العلم فيهما، ثم ارتحل إلى اسطنبول، وقابل أمراء وسلاطين العثمانيين، وقد زادت علاقته بعبد الحميد الثاني، والذي طلب من الشيخ البقاء في إسطنبول ليصبح أحد مستشاريه.
واعتقد السلطان نفسه في الطريقة الشاذلية الدرقاوية، وأقام لها زاوية (تكية) في اسطنبول، وهي الزاوية التي دُفن فيها الشيخ محمد ظافر سنة ١٩٠٣م عن عمر يناهز الثمانين عامًا، كما أصدر السلطان فرمانين بإعفاء أوقاف زوايا الطريقة المدنية من الضرائب والرسوم، وكان أحدهما يتعلق بأوقافها في الحجاز والثاني بأوقافها في ليبيا.
وفى وثيقة شهيرة تخص ما اتفق عليه مشايخ الطريقة المدنية الدرقاوية الشاذلية بمصر من إرشادات وتعاليم وتوجيهات لأبناء الطريقة، جاء في أولها:”بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي وفق من أسعده بإقامة الأوراد، وغمر قلبه بالأنوار والمشرب المعتاد، وجعله من الأتقياء الزهاد، ومن عليه بكثرة التلقي مع السادة الأجواد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى الله بالهدى والرشاد، حتى تورمت قدماه من شدة الاستعداد، وصام في الحر الهجير حتی طوى الأحشاء والأكباد، ولم يلتفت إلى الدنيا طرفة عين منذ خلق، لأنها سجن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة وسلاما مؤبدین عدد ما في علم الله على الأباد”.
وأوضحت الوثيقة أن كافة المؤمنين إخوة لا فرق بين الكبير والصغير والغني والفقير”، وتضمنت إرشادات لمقدم الطريقة وكذلك المريد، منها أن يجب على المقدم التحمل وكمال النصيحة لسائر الإخوان والتواضع، والاجتهاد في المحافظة على المداومة على الاقتداء بالسلف الصالح في كل عمل، وأن لا يرى نفسه إلا خادماً لإخوانه، لا رئيساً عليهم، ووضعت أختام مشايخ الطريقة: ومنهم عبد الرحمن عليش، محمد بن عبد الكبير الدرقاوي، محمد محمود عليش، محمد محمد عليش، حسن العناني، محسن أبو عبد الله اليماني، مسعود عثمان أبو السعادات، حسن أحمد الطوخي، حسن أحمد حبشي، محمد عبد المجيد، الحاج إبراهيم ، أحمد عبد الله عليش.
ومن الموقعين على الوثيقة الشيخ عبد الرحمن عليش وهو ابن الشيخ محمد عليش مفتي المالكية بالديار المصرية (ت ١٨٨٢م) وشيخ الطريقة الشاذلية، ولما كانت ثورة عرابي باشا اتهم كلاهما بموالاتها، حيث زُج بالشيخين في السجن وحُكم عليهما بالإعدام ، مات الأب في السجن، أما الإبن فخفف عليه الحكم من الإعدام للنفي.
والشيخ عبد الرحمن عليش كما يؤكد عمر الشريف، هو الذي أسلم على يديه الفيلسوف الفرنسي رينيه جينو المولود في فرنسا عام 1886م، حيث أعلن إسلامه عام ١٩١٢م، وغير اسمه لعبد الواحد يحيى.
وعرف رينيه جينو الشيخ عليش عن طريق الرسام السويدي “إيفان غوستاف أغيلي” الذي أسلم قبل رينيه سنة ١٩٠٧م وغير اسمه إلى “عبد الهادي عقيلي” وتصوف أيضاً على يد الشيخ عبد الرحمن عليش، والذي عينه عليش مقدماً له بالغرب أي أنه يملك الإذن لضم الغربيين “الأوروبيين” لطريقته الصوفية، وقد توفي إيفان في حادث سير ببرشلونة سنة ١٩١٧م.
أما عبد الواحد يحيى أو جينو فقد أهدى أحد كتبه لشيخه عبد الرحمن عليش فقال: “إلى الذكرى المقدسة، ذكرى الشيخ عبد الرحمن عليش الكبير، المالكي، المغربي، الذي أدين له بالفكرة الأولى لهذا الكتاب، من مصر القاهرة 1329-1347هــ”.
واستقر عبد الواحد يحيى بالقاهرة وعاش في حي الأزهر، ومكث يؤلف الكتب ويكتب المقالات، وتزوج من كريمة الشيخ محمد إبراهيم، وتوفي سنة ١٩٥١م ودُفن في مقبرة أسرة زوجته بالقاهرة.